قد تبدو اعلانات يوم التأسيس متشابهة للوهلة الأولى. ذات الألوان، نفس الزخارف، الخيّالة يتصدرون المشهد،وخلفهم البيوت الطينية والراية ترفرف بشموخ. ولكن في كل عام، وبين هذا الضجيج البصري، تظهر حملات نادرة تترك أثرًا حقيقيًا، يتداولها الناس، ويتوقفون عندها احترامًا أو إعجابًا.
هل هو نوع الخط؟ الزاوية؟ المصمم؟ لا. المسألة أعمق.
حين تعمل في المحتوى والتسويق لسنوات، تدرك أن الفرق الحقيقي لا تصنعه الأدوات بل الرؤية. الإعلان ليس لوحة، بل موقف تعبّر فيه العلامة التجارية عن فهمها للهويّة، عن تقديرها لما يعنيه يوم التأسيس فعلًا، لا شكليًا.
في هذا المقال، لن نستعرض لك الأدوات، بل سنفكك المنهج: لماذا تفشل الإعلانات رغم “الاحترافية”؟ كيف تبني إعلانًا يليق بالسعودية لا بالترند؟ ومتى يكون يوم التأسيس فرصة لبناء ولاء حقيقي لا مجرد تفاعل سريع؟
لنبدأ من السؤال الذي لا يسأله أغلب المعلنين…
ما الذي تغيّر؟ ولماذا لم تعد إعلانات يوم التأسيس كما كانت؟
في عام 2022 تحديدًا؛ شكّل يوم التأسيس حدثًا غير مسبوق في الوعي الجماعي السعودي. مشاعر وطنية متقدة، لحظة تاريخية جديدة، وتشويق واسع لمعرفة معنى هذا اليوم مقارنة باليوم الوطني. فقط لاحظ حجم الإعلانات على منصة تيك توك وحدها:
كان السوق عطِشًا لأي تعبير بصري أو سردي جديد يحمل هذه الهوية الناشئة. ولذلك، كانت الحملات الإعلانية تُبنى على مفردات بسيطة: اللباس التقليدي، صور الخيّالة، ملامح الأجداد، مع اقتباسات مألوفة تُلامس الحس الوطني.
لكن مع مرور عامين، أصبحنا أمام مشهد مزدحم بصريًا وسرديًا.
تشبّع في الخطاب وتشابه في الصورة
يشير تقرير “يوم التأسيس 2023” إلى تسجيل أكثر من 5.4 مليون منشور متعلّق بالحدث خلال 72 ساعة فقط، 90% منها تدور حول نفس العناصر: زي موحّد، خلفية ترابية، راية التأسيس، وعبارة “يوم بدينا”.
بكلمات أخرى، لم تعد الإعلانات تعبّر عن “روح العلامة”، بل استسلمت لنسخ الهوية الرسمية دون إعادة تفسيرها أو تأويلها.
حين تصبح الهوية عبئًا بدل أن تكون مصدر إلهام
كثير من العلامات تعاملت مع الهوية البصرية الرسمية ليوم التأسيس على أنها “حدود لا يجوز تجاوزها”، بينما الذكاء التسويقي الحقيقي يبدأ حين نعيد طرح السؤال:
ماذا يعني يوم التأسيس لنا نحن؟ لا للدولة فقط، بل للعلامة التجارية؟
الإجابات هنا قد تختلف: قد تجدها في قصة التأسيس، في علاقة المتجر بجغرافيا محددة، أو حتى في جمهورها المستهدف. لكن حين لا يُطرح هذا السؤال أصلًا، يصبح الإعلان مجرّد تقليد بصري منسوخ.
تغيّر قواعد الظهور: من الشكل إلى الفهم
لم تعد المنصات الرقمية تكتفي بتقييم جمال التصميم. بل تبحث في الخلفية السردية، الربط بالسياق، والتهيئة لمحركات الذكاء الاصطناعي.
في إحدى الحملات التي عملنا عليها داخل “نكتب لك”، قدّم العميل تصميمًا بصريًا راقيًا لكن بدون أي محتوى مكتوب أو رابط رقمي يدعمه. النتيجة؟ الحملة لم تظهر في أي مساحة ذكية، لا عبر Google ولا Bing ولا ChatGPT plugins. ببساطة: لم تكن مفهومة للآلة.
الإعلانات اليوم ليست فقط لمن يراها، بل لمن تلتقطها الخوارزميات وتفهمها وتسردها لاحقًا في تجارب المستخدمين.
مهم للغاية: إعلانات الحج: مَن يزرع المعنى في الطريق إلى مكة؟
لماذا تفشل بعض الحملات رغم جمال التصميم؟
كثير من العلامات التجارية تُنفق ميزانيات ضخمة على تصميم إعلان يوم التأسيس: ألوان متناغمة، خطوط تقليدية، فيديوهات عالية الجودة، وحتى استخدام دقيق للهوية الرسمية الصادرة عن هيئة الأدب. لكن رغم ذلك، تمر الحملة مرور الكرام: التفاعل ضعيف، نسبة المشاهدة منخفضة، والتأثير التجاري غائب.
ما السبب؟
الجواب المختصر: الجمال لا يكفي. أما الجواب المفصل فهو..
1. لأن الذكاء الاصطناعي لا يُبصر الصور، بل يفهم السياق
أكثر من 80% من عمليات التصفّح والاكتشاف على منصات مثل Google وYouTube وتيك توك تُوجَّه اليوم بواسطة خوارزميات. هذه الخوارزميات لا “تنبهر” بجمال الصورة أو جودة الموشن جرافيك، بل تبحث عن دلالات واضحة:
- هل الحملة مرتبطة بموقع أو جهة محلية؟
- هل تتحدث نصيًا عن يوم التأسيس؟
- هل تذكر مشاعر الفخر والانتماء بعبارات قابلة للفهم والتصنيف؟
إذا غابت هذه العناصر، تفشل الحملة في الظهور أمام الجمهور المناسب.
تكشف استطلاعات رسمية أن أكثر من 81% من السعوديين يشعرون بانتماء أعمق عند الحديث عن يوم التأسيس، لا لأنه مناسبة حكومية فقط، بل لأنه يحرّك شيئًا في الذاكرة الجمعية. هذا ما يجعل الإعلانات التي توظّف الرموز النجدية والقصص التاريخية أكثر تأثيرًا — بحسب التقرير الرسمي، فإن 64% من الجماهير يتفاعلون أكثر مع الرسائل البصرية ذات الطابع النجدي مقارنة بالإعلانات العامة.
من تجربتنا في نكتب لك؛ نؤكد الاحصائيات السابقة لأن إحدى العلامات التجارية في قطاع التجميل أطلقت حملة بصرية مذهلة ليوم التأسيس، لكنها لم تحقّق أكثر من 1500 مشاهدة رغم أن لديها +100 ألف متابع.
بعد تحليل الحملة، تبيّن أن النصوص المصاحبة كانت تفتقد لكلمات مفتاحية مثل “يوم التأسيس” أو “السعودية”، ولم تُربط بأي قصة أو منتج. عند إعادة إنتاج المحتوى مع مراعاة العناصر النصية وربطه بمنتجات مستلهمة من التراث، تجاوزت الحملة 20 ألف مشاهدة خلال أول 48 ساعة فقط.
2. لأن الحملة تُنفَّذ كـ”حدث موسمي”، لا كفرصة استراتيجية
بعض العلامات تنفّذ إعلان يوم التأسيس كما تنفّذ عرضًا مؤقتًا في نهاية الموسم: بشكل روتيني. لا تعمّق في فهم المناسبة، ولا ربط بالعلامة نفسها.
مثال آخر: متجر إلكتروني متخصص في الأزياء المعاصرة أطلق حملة ليوم التأسيس استخدم فيها مشاهد تقليدية، لكن دون أي رابط مع منتجاته أو جمهوره المستهدف. النتيجة؟ الحملة لم تُشاهد إلا عبر الإعلانات المدفوعة، دون أي تفاعل عضوي يُذكر.
بينما في المقابل، عندما ربطت إحدى العلامات المتخصصة في العطور بين مناسبة يوم التأسيس و”قصة أول خلطة عطرية سعودية” أطلقتها احتفالًا بالمناسبة، تجاوز التفاعل العضوي 12 ضعف المعدل المعتاد للحملات الموسمية.
3. لأن نسخ الأفكار لم يعد يُثمر
وفقًا لتحليل بصري صدر في تقرير “يوم التأسيس – هيئة التراث 2023″، فإن أكثر من 72% من الحملات التجارية استخدمت نفس العناصر البصرية الرسمية (الشعار، الألوان، الخط)، دون إضافة جديدة.
هذا التكرار أفقد الإعلانات تفرّدها.
الجمهور أصبح يُميّز بين إعلان صُمّم بوعي، وآخر نُفّذ بسرعة للحاق بالترند.
3 خطوات لصناعة إعلان لا يُنسى في يوم التأسيس
الإعلان الذي يبقى في الذاكرة لا يُبنى على الزينة البصرية فقط، بل على عمق الفكرة، وجرأة الطرح، وصدق الارتباط بالهوية. إليك ثلاث خطوات نرى أنها تصنع الفارق فعلًا:
الخطوة الأولى: لا تبدأ من المناسبة، بل من ذاتك
أغلب الحملات تبدأ من السؤال: كيف نعبر عن يوم التأسيس؟ لكن السؤال الأذكى هو: ما علاقتنا نحن بيوم التأسيس؟
حين طرحنا هذا السؤال مع أحد عملائنا في قطاع المطاعم، اكتشفنا أن قصة المؤسس ترتبط بجده الذي كان يزرع القهوة في الجنوب منذ عقود. لم نُظهر القهوة ولا الجنوب في الحملة. بل صنعنا سردًا يتحدث عن الإرث والعمل والضيافة بوصفها سمات تأسيسية في روح العلامة. هكذا ولد إعلان لم يشبه أحدًا.
ابدأ من نقطة التقاء المنتج مع الروح السعودية، لا من النقاط العامة التي يعرفها الجميع.
الخطوة الثانية: اكتب فكرة، لا شعارًا
الفرق بين الحملة العادية والناجحة يبدأ من أول سطر. الشعار الجيد لا يُقتبس فقط، بل يُترجم إلى أفعال وصور ورسائل متتالية.
حين أطلقنا مع أحد العملاء شعار “أقرب للتاريخ مما تتصور”، لم نقف عند العبارة. بنينا فيديو قصيرًا يعرض خطوات إنتاج المنتج نفسه بأدوات يدوية، ربطناها برموز حرفية سعودية تقليدية. النتيجة: إعلان بمفهوم، لا بعبارة عابرة.
لا تكتفِ بشعار محفوظ، بل ابحث عن جذر القصّة.
الخطوة الثالثة: اربط اللحظة بالمنتج ربطًا أصيلًا
الإعلان لا يحتفل لمجرد الاحتفال، بل ليقول شيئًا جديدًا عنك في لحظة عاطفية مشتركة.
لا تُحمّل المنتج رموزًا لا يحتملها، ولا تُجبر المناسبة على حمل قيم لا تخصها. بدلًا من ذلك، سل نفسك: كيف ينعكس يوم التأسيس على ما نقدمه؟ قد يكون الجواب في طريقة العمل، أو في قصة المؤسس، أو في علاقة المتجر بالحي أو بالمجتمع.
الخطوة | الهدف الرئيسي | أسئلة تساعد على التطبيق | مثال عملي |
1. البحث في الهوية المحلية للعلامة | العثور على نقطة ارتباط حقيقية مع يوم التأسيس | ما الرابط بين قصة تأسيس العلامة وقصة تأسيس الدولة؟ | متجر عبايات سعودي استخدم لقب “المؤسسة الأولى للأناقة” |
2. تحويل الهوية إلى رمز بصري | نقل الفكرة إلى إعلان ملموس | ما الشكل البصري الذي يحمل البُعد الزمني والتاريخي؟ | شركة توصيل ربطت خريطة الدولة بأماكن انتشارها |
3. ضبط زاوية النداء العاطفي | التأثير في المتلقي دون تكلف | هل الإعلان يخاطب “الفخر” أم “الامتنان” أم “الأمل”؟ | شركة تقنية استخدمت عبارة: “نُنجز اليوم لأننا ننتمي للأمس” |
الإعلانات التي تبقى، هي التي تقول ما يشبهك بصوت يخصّك.
ما الذي لا يجب أن تفعله في حملات يوم التأسيس؟
من الخطأ التسويقي الشائع أن يُعامل يوم التأسيس كنسخة تاريخية من اليوم الوطني. اليوم الوطني يحتفي بإنجازات الدولة الحديثة، بينما يوم التأسيس يعود إلى جذور الكيان وثقافته النجدية. لذا، بينما تُبرز إعلانات اليوم الوطني الإنجازات والمؤسسات، يجب أن تحتفي إعلانات يوم التأسيس بالقصص، والرموز، واللباس، واللهجات، وروح المكان.
في كثير من الحملات التي راجعناها خلال السنوات الماضية، لاحظنا نمطًا يتكرر لدى العلامات التجارية التي لم تحقق أثرًا يذكر في يوم التأسيس. هذا النمط ليس في الفكرة ولا في التصميم فقط، بل في الفهم السطحي للمناسبة.
1. لا تكرر ما فعله الجميع في السنة الماضية
حين تمتلئ صفحات المتاجر بنفس الألوان ونفس العبارات ونفس الشعارات، يفقد الإعلان معناه حتى لو كانت النوايا حسنة. إذا فتحت حسابات إنستغرام لأغلب الشركات في فبراير، ستجد المشهد التالي: عبارة “يوم بدينا”، صورة رجل يلبس الشماغ ويقف بجانب خيمة، وخط تقليدي يمرّ فوق عبارة “نفخر بتاريخنا”.
المشكلة ليست في الرموز، بل في انعدام التفسير الشخصي لها. جمهورك لا يريد أن يرى ما يُذكّره ببطاقات التهنئة الرسمية، بل ما يُعيد تعريفها من زاوية منتجك أنت.
2. لا تجعل الإعلان نسخة من اليوم الوطني
رغم القرب الزمني والرمزي بين اليوم الوطني ويوم التأسيس، فإن لكل مناسبة هوية شعورية مختلفة. الأول يعكس صورة الإنجاز، والثاني يُلامس جذور الانطلاق.
أنت لا تحتفل بنهاية الرحلة، بل ببدايتها. وهذا ما يجب أن ينعكس في نبرة إعلانك، في طريقة السرد، وفي الاختيارات البصرية.
3. لا تهرب من كتابة النصوص العميقة
الصور لم تعد كافية. خوارزميات البحث الحديثة، ومحركات الاقتراحات مثل Google SGE وTikTok Trends تعتمد بشكل كبير على النصوص المرافقة للصور والفيديوهات. والنص الضعيف لا يُقترح، لا يُحفظ، ولا يُحفّز.
حين تكتب للإعلان، لا تبحث عن الجملة “المؤثرة”، بل ابحث عن المعنى الذي يصمد بعد انتهاء الإعلان.
خلاصة القول: الإعلان الذي لا يُنسى لا يُؤجَّل
يوم التأسيس ليس مجرد موعد ثابت في الروزنامة، بل فرصة عاطفية يتوقف فيها السوق عن الضجيج، وينصت لما هو حقيقي. الإعلان الناجح لا يصنع زينةً مؤقتة، بل يضيف طبقة جديدة إلى علاقة العلامة بجمهورها، إلى سرديتها، إلى صورتها في الوعي.
من واقع ما رأيناه في الحملات الماضية: من يبدأ التخطيط قبل المناسبة بأسابيع، لا يبحث عن “تصميم جميل”، بل عن فكرة راسخة. ومن يرى في المناسبة فرصة للتعبير، لا للتقليد، يخرج بإعلان يبقى في الأذهان بعد انقضاء اليوم.
في “نكتب لك”، نؤمن أن الحملات الوطنية لا تُكتب كغيرها. تحتاج لعين تفهم السياق المحلي، ولغة تمزج الاحترام بالإبداع، وأسلوب يبتعد عن الحشو والادّعاء.
فإذا كنت تبحث عن إعلان لا يُنسى في يوم التأسيس القادم، فلنتحدث من الآن.