إذا كنت تبحث عن طريقة واضحة لـتموضع العلامة التجارية في سوق مزدحم، أو تُحاول أن تُميز مشروعك عن منافسيه، فأنت في المكان المناسب ولكن ربما بطريقة لم تتوقّعها، في هذا الدليل، لن نشرح لك فقط ما هو تموضع العلامة التجارية، بل سنكشف:
- لماذا يضلّ كثير من المسوّقين في تطبيقه؟
- ما الفرق بين التموضع والهُوِيّة والعرض التسويقي؟
- وكيف تصنع لنفسك مكانة لا ينافسك عليها أحد حتى لو كنت لاعبًا جديدًا؟
هذا ليس مقالًا عن النظريات، بل تجربة عملية من السوق، ومن داخل فرق التسويق التي أعادت اكتشاف نفسها فقط لأنها فهمت التموضع.
ما هو تموضع العلامة التجارية؟ ولماذا يُعَدُّ الخطوة الأولى في أي خطة تسويق ناجحة؟
في تعريفه البسيط، يُقصد بـ تموضع العلامة التجارية: الطريقة التي يرى بها الجمهور علامتك في مقابل غيرها، ليس كما تريد، بل كما يفهم ويشعر.
قبل أن تسأل: كيف أُحدّد تموضع العلامة التجارية الخاصة بي؟ اسأل أولًا: لماذا لا يتذكّر الناس علامتي رغم كل هذا الجهد؟
هنا يبدأ التموضع، لكنه في العمق، أعمق من ذلك بكثير: التموضع هو ما يجعل العميل يقول دون تردّد: “هذه العلامة خُلِقت لي”.
التموضع – في جوهره – ليس شعارًا مميزًا، ولا تصميمًا أنيقًا، ولا حتى جملة محبوكة في ملف الهوية، إنه موقف، اختيار واعٍ لما ستكون عليه في السوق، وما لن تكون عليه أبدًا، فالتموضع القوي ليس فقط ما يُقال عنك، بل ما يثق به الناس عنك، وهو ما تبرزه الأرقام بوضوح: 81٪ من المستهلكين لا يفكرون في الشراء من علامة لا يثقون بها، إذًا فبناء الثقة يبدأ من التموضع، لا من الإعلانات.
العلامة التي تفشل في التموضع ليست مجهولة فقط، بل مرهِقة، ترهق فريق التسويق، وترهق العملاء، وترهق نفسها في محاولة تفسير نفسها باستمرار.
هل التموضع يُصنَع أم يُكتشَف؟
كثير من الشركات ترتكب خطأ جوهريًّا: تعتقد أن التموضع هو ما نُريد أن نقوله عن أنفسنا، لكن الحقيقة هي أن التموضع ليس اختراعًا، بل كشفٌ لفراغ موجود في ذهن العميل، نحن فقط نملؤه بصيغة جديدة، أكثر صدقًا ووضوحًا من غيرنا.
لنضرب مثالًا:
شركة اختارت أن تُمركز نفسها على أنها “الأرخص” في السوق، في حين أن جمهورها المستهدف يبحث عن “الدقة والموثوقية”، فكانت النتيجة: تموضع غير متناسق مع السوق، وحملات تسويقية تنزف دون أثر.
أنت لا تُقنع السوق بما أنت عليه، بل تصطدم به إن خالفت منطقه الداخلي.
التموضع هو العدسة التي يرى الناس من خلالها أي شيء آخر:
هل تعرف لماذا تختلف استجابة العملاء لإعلانات شركتين تقدمان نفس الخدمة؟
لأن خلف كل رسالة هناك عدسة ذهنية تسبق أي تفاعل.
- العلامة التي تموضعت على أنها “الصديق المهتم” تُقرأ رسائلها وكأنها نصيحة.
- في حين أن العلامة التي تموضعت على أنها “الخبير المسيطر” تُقرأ رسائلها كأمر.
لهذا فإن كل إعلان وكل تغريدة وكل رد على عميل، هو انعكاس لتموضعك، شئت أم أبيت.
التموضع ليس ما تكتبه أنت، بل ما يختبره العميل:
تموضعك الحقيقي لا يُقاس بما تقول، بل بما يفهمه السوق:
- هل يقول الناس عنك ما كنت تأمله أصلًا؟
- هل يعرفونك بجملة بسيطة لا يشاركونك فيها مع أحد؟
- هل يشير إليك السوق بأصبع ويقول: “هؤلاء هم…”؟
إذا لم تكن الإجابة “نعم”، فتموضعك مجرد ورق.
قد يهمك: تقسيم السوق لم يَعُد كافيًا: كيف تُهندِس جمهورك عاطفيًّا، بدلًا من مطاردته بالأعمار والمدينة؟
الفرق بين الهوية، والتموضع، والعرض التسويقي (UVP): لماذا الخلط بينها يقتل وضوحك؟
في كثير من الشركات التي تعاملنا معها، كانت أولى علامات الفوضى التسويقية هي: أن الجميع يتكلّم بلغة مختلفة.
- المصمم يتكلّم عن الشعار.
- المدير يتكلّم عن الرؤية.
- كاتب المحتوى يتكلّم عن USP.
لكن لا أحد يعرف من نحن فعلًا في السوق، ولا كيف يُفترض أن يرانا الناس، هذا يحدث حين تُخلط بين 3 مفاهيم جوهرية: الهوية، التموضع، والعرض التسويقي، وتُعامَل هذه المفاهيم كما لو كانت أسماء مختلفة لشيء واحد.
لنكسر التشابه المزيّف:
أنت تستطيع أن تختار ألوانك وهويتك البصرية خلال أسبوع، وتستطيع أن تكتب وعدًا تسويقيًّا ممتازًا في ساعة، لكن التموضع لا يُكتَب، بل يُبنى ويُختبر ويُدافع عنه، فالهوية تهمّك أنت، أما التموضع يهمّ السوق.
التموضع ليس رأيًا داخليًّا، بل قرار خارجي:
إذا جلست داخل الشركة وأطلقت العبارات التالية:
- “نحن نُريد أن نُعرف بأننا الأسرع”.
- “نريد أن نظهر وكأننا ودودون”.
- “نحن نوفّر كل شيء”.
فهذه ليست تموضعًا، هذه رغبات داخلية، أما التموضع فهو أن تعرف ما الفراغ الموجود في السوق، وما الفئة التي تفتقد شيئًا محددًا، وكيف تملأ هذا الفراغ بطريقة لا تقبل التقليد.
التناقض القاتل الذي لا ينتبه له أحد:
تخيل هذا السيناريو: عيادة طبية تركّز على “الطمأنينة والعناية”، ثم تستخدم هوية بصرية صارخة وألوانًا عنيفة، في المقابل تعرض في الصفحة الرئيسية عبارة: “أحدث تقنيات الطب المتقدمة عالميًّا”.
أي رسالة سيستقبلها العميل؟ الطمأنينة أم الجدية الباردة؟ هل التمركز هنا هو على الراحة النفسية أم على التقنية أم على الجودة؟
الرسائل المتضاربة = تموضع غير مستقر = تسويق بلا عائد.
التموضع الناجح = تضحية واعية:
هذا ما لا يجرؤ عليه كثير من المسوّقين في العالم العربي: أن تقول “لا” لفئات معينة، وأن تُقصي نفسك من مقارنات لا تهمك.
- العلامة التي تتموضع كحلّ بسيط، ترفض أن تدخل في سباق الميزات.
- العلامة التي تتموضع على أنها راقية، ترفض المنافسة في السعر.
- العلامة التي تتموضع حول الخصوصية، تتنازل عن الراحة أو التكامل أحيانًا.
التموضع الواضح لا يعني قول “أنا كل شيء للجميع”، بل قول “أنا هذا، ولست غيره”.
الفرق الجوهري إذًا:
- الهُوِيّة: كيف نبدو؟
- التموضع: ماذا نمثّل؟ ولمَن؟ وضد مَن؟
- UVP: لماذا علينا أن نُختار دون غيرنا؟
لكن السؤال الأعمق الذي لا يُسأل غالبًا هو: ما الثمن الذي نحن مستعدون لدفعه لنكون مميزين فعلًا؟
وهذا ما لا تقوله الهُوِيّة ولا تصيغه العبارات التسويقية، هذا هو قلب التموضع الحقيقي.
قد يهمك: الكَمّ لا يعني القيمة: لماذا تفشل الشركات في تحقيق نتائج، على الرغم من وفرة مؤشرات الأداء؟
خطايا التموضع: كيف تموت العلامات الجيدة حين تُخطئ موقعها؟
في كل سوق مكتظ، لا يُكافأ الجهد، بل يُكافأ الوضوح، ليس بالضرورة أن تكون العلامة الأسرع، أو الأرخص، أو الأذكى، بل أن تكون الأوضح في موقعها الذهني.
والعلامة التي تفشل في تموضعها لا تموت لأن فكرتها ضعيفة، أو منتجها سيء، بل لأنها لم تُحدّد مَن تخاطب، ولا كيف تُفكّر، ولا بأي عدسة تُريد أن تُرى.
التموضع ليس قرارًا لغويًّا، بل هو قرار وجودي، إنه الكلمة الأولى التي تقولها السوق عنك، حتى من دون أن تنطق.
في السطور التالية، لا نستعرض أخطاءً نظرية، بل نُحلّل أربع خطايا قاتلة رأيناها في السوق، لا في الكتب، أخطاء تكرّرت بصيغ مختلفة، لكنها تؤدي دائمًا إلى النتيجة ذاتها: علامة لا تُذكر مهما كانت جودتها.
1. تموضع بلا تضحية:
التموضع الحقيقي يتطلب أن تختار، أن تُقصي، أن ترفض، أن تقول: “نحن نُناسب هؤلاء، ولسنا موجهين لهؤلاء”.
لكنه في السوق العربي غالبًا ما يُبنى على “الإرضاء العام”، “نحن الأرخص، والأجود، والأسرع، ونُناسب الجميع”.
جملة كهذه – رغم بريقها – لا تعني شيئًا فعليًّا، هي أشبه بلافتة مضاءة على متجر لا يبيع شيئًا مميزًا، كلما اتسعت الرسالة فقدت معناها.
الاتساق في الرسالة، في التصميم، في نبرة الصوت، هو ما يصنع الفارق، وليس أدلّ على ذلك من أن 60٪ من الشركات التي التزمت بالاتساق لاحظت نموًّا في الإيرادات بنسبة تتراوح بين 10٪ و20٪.
مثال واقعي:
شركة ناشئة في قطاع التوصيل في السعودية حاولت التنافس على كل المحاور: السرعة، السعر، التنوّع، تجربة الاستخدام، دعم العملاء، لكنها لم تُعرف بشيء، لم تُميّز فئة، ولم تُقصِ أخرى، وفي النهاية اختفت من وعي المستخدم.
على الجهة المقابلة، تموضع “نعناع” بذكاء حول تجربة البقالة المنزلية المنظمة، الدقيقة، المعتمدة على التكرار والجودة في التسليم، دون أن يَعِدَ بأن يكون الأرخص أو الأسرع.
فكانت النتيجة: “نعناع” يُستدعَى ذهنيًّا مباشرةً حين يُذكر “التسوق الأسبوعي من البقالة” في السعودية، أما الأولى فلا تُذكر إطلاقًا.
2. تموضع بالوراثة لا بالاكتشاف:
التموضع ليس شيئًا يُنقل أو يُستلهم من الآخر، بل هو فجوة تُكتشف ثم تُحتَل.
كثير من المشاريع الناشئة تبدأ بعبارات مثل:
لكن السوق لا يكافئ التقليد، بل الاختلاف الحقيقي.
مثال دقيق: منصة لبطاقات الهدايا الرقمية تموضعت كنسخة محلية من “Amazon Gift Cards”، فبقيت في الظل رغم جودة منتجها، إلا أنها لم تختر لنفسها صوتًا خاصًّا، ولا جمهورًا واضحًا، ولا مشهدَ استخدامٍ مختلفًا.
على الطرف الآخر، نجد “رسال” وقد اختارت زاوية غير مألوفة: لم تُعامل بطاقة الهدية كمنتج، بل كرسالة شعورية، التجربة كلها تدور حول فعل الإهداء، لا مجرد إرسال كود.
الفرق:
رسال تحوّلت إلى مرادف اجتماعي للهدايا، وانتزعت موضعها في الذاكرة الجماعية.
3. تموضع يتغيّر مع كل مزاج:
بعض العلامات تُغيّر تموضعها كما يغيّر البعض خلفية جواله، كل حملة إعلانية تُروّج لزاوية، وكل اجتماع داخلي يخرج برسالة جديدة.
- اليوم: “نحن الأفضل في السعر”.
- غدًا: “نحن الأقرب نفسيًّا للعميل”.
- بعد أسبوع: “نحن الأذكى تكنولوجيًّا”.
هذه الحركة قد تُثير إعجاب المعلنين، لكنها تُربك الجمهور، وتُربك الفريق الداخلي قبل ذلك.
لنضرب مثالاً:
أحد تطبيقات التوصيل في المنطقة بدأ بتموضع محدّد جدًّا: “خدمة توصيل داخل الحي، بلمسة شخصية”، ثم قرّر أن يتوسّع ليُصبح “منصة خدمات يومية شاملة”.
الميزانية لم تتسع، الفريق لم يتكيّف، الرسالة تشوّهت.
فكانت النتيجة: فقد الفئة الأولى التي شعرت بأنه لم يَعُدْ يخاطبها، ولم يُقنع الفئة الثانية التي وجدت البدائل أوضح منه.
4. تموضع لا يُثبت نفسه بالتجربة:
التموضع ليس وعدًا نظريًّا، بل تجربة فعلية:
تقول إنك الأبسط؟ دعني أجرّب التسجيل.
تقول إنك الأسرع؟ دعني أراسل الدعم.
تقول إنك الأفضل للأعمال الصغيرة؟ دعني أقرأ لغة الواجهة.
التموضع الحقيقي يُختبر في أول خمس دقائق.
إليك مثالًا واضحًا:
شركة SaaS عربية تموضعت بأنها “أسهل برنامج محاسبة للشركات الصغيرة”، لكن عند التسجيل، يُطلب منك:
- السجل التجاري.
- الرقم الضريبي.
- إثبات هُوِيّة.
- موافقة على تفعيل يدوي.
أين “السهولة”؟ أين “المناسبة للمشاريع الصغيرة”؟
فكانت النتيجة: انسحب المستخدم، دون أن يُكمل التجربة.
إذًا ما الذي يجعل التموضع ينجو؟
١- أن يُبنى من الداخل، لكن يُختبر في الخارج.
٢- أن يكون واضحًا، لكن غير تقليدي.
٣- أن يكون بسيطًا، لكنه مبني على موقف.
التموضع ليس جملة تُكتب في ملف الهُوِيّة، التموضع هو الشعور الذي يخرج به العميل بعد أول تجربة إن كان له أن يعود.
قد يهمك: كيفية عمل خطة تسويقية لمنتج في صفحة واحدة.
4 أمثلة ناجحة لعلامات عربية فهمت التموضع بذكاء:
في بيئة تتشابه فيها الشعارات، وتتصارع فيها الحملات، يصبح التموضع الناجح عملًا إستراتيجيًّا قبل أن يكون إبداعًا بصريًّا.
والسوق العربي – رغم ازدحامه – لا يخلو من أمثلة حيّة لعلامات فهمت التموضع لا كمصطلح تسويقي، بل كموقف واضح، ورسالة متماسكة، وتجربة تترجم هذه الرسالة دون حاجة للشرح.
سنستعرض هنا أربع علامات عربية استطاعت أن تُميز نفسها في وعي الجمهور، لا لأنها الأفضل دائمًا، بل لأنها الأوضح، والأجرأ في اختيار موقعها.
المثال الأول: سلة: التمكين الفوري للتاجر غير التقني:
حين دخلت “سلة” إلى سوق التجارة الإلكترونية في السعودية، لم تكن وحدها، كانت هناك منصات جاهزة تقنيًّا مثل: “woocomerce”، وأخرى عالمية مثل: “شوبيفاي”، فضلاً عن حلول مخصصة تقدمها شركات تطوير المواقع والمتاجر، لكن وسط هذا الزحام، قررت “سلة” أن لا تنافس بالجودة، أو بالسعر، أو بالميزات.
بل اختارت أن تنافس بالبساطة، الرسالة الجوهرية التي تبنّتها سلة – وإن لم تُقَلْ حرفيًّا – هي: “أنت لا تحتاج أن تكون مبرمجًا، ولا أن تنتظر أسبوعًا، ولا أن تفهم الـ SEO أو الـ UI، فقط افتح متجرك الآن، وابدأ البيع”.
هذا هو التموضع الحقيقي: منصة تمكّن التاجر غير التقني من الدخول الفوري إلى السوق.
لماذا يُعَدُّ هذا التموضع ذكيًّا؟
- لأنه حدّد جمهورًا بدقّة: التجار الأفراد، أو أصحاب المشاريع المنزلية، أو من يبيعون على إنستغرام ويريدون خطوة تالية.
- ولأنه رفض المنافسة في مناطق مزدحمة: لم تدخل سلة في سباق مع “شوبيفاي” على عدد التطبيقات المدمجة، لم تدخل مع “زد” في سباق المزايا المؤسسية.
بل قالت: “من يريد الانطلاق بسرعة وبدون تعقيد، نحن هنا”.
كيف انعكس التموضع على المنتج والتجربة؟
- واجهة استخدام فورية، لا تحتاج إلى شرح أو دورة تدريبية.
- لوحة تحكم بلغة عربية واضحة، تُخاطب المستخدم كما لو كان صديقًا، لا مطوّرًا.
- أتمتة في الإنشاء والتجهيز: يمكن لتاجر أن يُنشئ متجرًا في جلسة قهوة.
حتى الرسائل الدعائية، والإعلانات، وتصميم الموقع نفسه… كلّها تردّد نفس المعنى، لكن دون تكرار الكلمات: البساطة، الفورية، البداية بدون خوف.
مثلا لنقارن سلة بمنافسيها ليتضح المثال أكثر:
العنصر | سلة | زد | شوبيفاي |
الجمهور الأساسي | تاجر فرد – مبتدئ | علامة تجارية قائمة | مطورون / خبراء تسويق |
التجربة | فورية | شبه مؤسسية | تحتاج خبرة فنية |
اللغة البصرية | خفيفة، مبسّطة | احترافية، رسمية | محايدة |
المنطق العاطفي | “ابدأ الآن” | “نمّ عملك” | “صمّم متجرك بنفسك” |
الدرس المستفاد:“سلة” لم تصرخ أنها الأفضل، ولم تعد بأنها الأرخص، لكنها كانت الأوضح في وعدها:
تمكين التاجر غير التقني، بأبسط طريقة ممكنة. هذا التمركز البسيط هو ما جعلها تُصبح الخيار التلقائي للتجار في بداياتهم، وتستحوذ على مكانة لا يُنافسها عليها أحد، حتى من يملك موارد أكبر أو تقنيات أضخم.
المثال الثاني: مرسول: المرونة المطلقة بدل السرعة أو السعر
في الوقت الذي انشغل فيه منافسو “مرسول” بتطوير قوائم المطاعم، وتوقيع العقود، وضبط التسعير والخدمة، جاء مرسول بمنطق مختلف تمامًا – لا يُحدد ما يمكن توصيله، بل يفتح الاحتمال.
مرسول لم يقل: “نوصّل الطعام أسرع”، ولا قال: “نحن الأرخص”. بل قال، من حيث التجربة الفعلية: “قل لنا ماذا تريد… وسنرسله إليك، من أي مكان.”
هذا التموضع لم يعتمد على تقديم “ميزة محددة” بل على تقديم منطق مختلف كليًا للتوصيل: منصة مفتوحة، مرنة، يقرر فيها العميل ما يحتاج، ويذهب إليه السائق.
ما وجه الذكاء في هذا التموضع؟
- لأنه نقل قرار الطلب من “المتجر” إلى “المستخدم”: مرسول لا يقدّم قائمة، بل يطلب منك أن تحدد الحاجة – مهما كانت.
- ولأنه خلق فئة استخدام جديدة تمامًا: توصيل شيء نسيته في العمل أو إرسال هدية إلى صديق أو شراء غرض من محل لا يملك تطبيقًا أو حتى توصيل مفتاح من شخص لآخر.
هذا النوع من الاستخدام لا يمكن للتطبيقات التقليدية أن تغطيه – لأنها مبنية على قوائم جاهزة.
كيف انعكس التموضع على المنتج والتجربة؟
لا يوجد متجر، بل هو “طلب مفتوح” يكتبه المستخدم بنفسه، لا يُشترط التعامل مع شركاء تجاريين – السوق كله مفتوح، فالتوصيل يعتمد على السائق، لا على النظام المؤتمت، حتى التصميم نفسه يشبه “محادثة”، لا قائمة مطاعم، هذه ليست فقط خصائص، بل امتدادات عضوية للتموضع.
وحتى يتضح لك قوة تموضع مرسول، إليك مقارنة دقيقة بينه وبين المنافسين:
العنصر | مرسول | هنقرستيشن | جاهز |
نوع الخدمة | مفتوحة | قائمة مطاعم | مطاعم ومقاهي |
دور المستخدم | يحدد الطلب | يختار من خيارات | يطلب من جهة محددة |
منطق التطبيق | مرونة كاملة | تجربة منظمة | تجربة محدودة |
التمركز الشعوري | “كل شيء، من أي مكان” | “الطلب من مطعمك المفضل” | “راحة وسرعة في الأكل” |
الدرس المستفاد: مرسول لم يُقدّم وعدًا نمطيًّا، بل قدّم تجربة لا تشبه الآخرين أصلًا، لا يتفوق عليهم في مجالاتهم، بل ينتمي إلى مجال مختلف تمامًا.
لهذا السبب، يتم استدعاء “مرسول” ذهنيًّا في مواقف لا يمكن لـ هنقرستيشن أو جاهز تغطيتها، هذا هو جوهر التموضع: أن تحتل مكانًا لا يُقارن مباشرة بغيرك.
المثال الثالث: رسال: الهدية كعاطفة، لا كمنتج:
معظم المنصات التي تقدّم بطاقات الهدايا الرقمية تتموضع بطريقة وظيفية:
- “اشترِ بطاقة”.
- “اختر المبلغ”.
- “أرسل الكود”.
لكن رسال، منذ بدايتها، لم تُسوّق الهدايا كأكواد، بل كمواقف إنسانية، رسالتها الضمنية كانت: “لن نهدي عنك فقط، بل سنُعبّر عنك”، وبدلًا من أن تتموضع بوصفها “متجر هدايا رقمي”، اختارت أن تتموضع بوصفها منصة إحساس تنقل شعور القرب مهما بَعُد المكان أو تغيّرت الظروف.
أين يكمن ذكاء التموضع؟
- لأنه نقل قيمة المنتج من الشيء إلى اللحظة: لم يعد السؤال: “ما الذي أرسله؟”، بل: “ما الذي أريد أن أُعبّر عنه؟”.
- لأنه أعاد تعريف الوظيفة التسويقية للهديّة: من كونها مجرّد غرض مادّي، إلى كونها “لغة شعورية” تحتاج وسيلة ذكية لتُعبّر عنها.
وهذا التموضع خدم العلامة في كل التفاصيل: من كتابة وصف المنتجات إلى الصور والهوية وحتى التصميم الداخلي لتجربة الإهداء.
قد تسأل: كيف انعكس التموضع على تجربة المستخدم؟
منصة رسال لا تعرض المنتجات بشكل مباشر، بل تبدأ من المناسبة: “عيد ميلاد”، “شكر”، “مواساة”… إلخ، لغة الرسائل ليست تقنية: بل عاطفية، شاعرية، إنسانية، طريقة التغليف الرقمي (أو الفعلي) تُعطي للهدية هيبة تتجاوز قيمتها المادية.
كل هذا لم يكن مصادفة، بل نتيجة قرار تموضع صارم: نحن لا نبيع هدايا، نحن نُقدّم تجربة إهداء.
إليك مقارنة مع المنافسين لتفهم تموضع رسال أكثر:
العنصر | رسال | أمازون غيفت كاردز | متجر هدايا تقليدي |
المدخل | موقف شعوري | منتج قابل للشراء | غرض في واجهة |
الفئة المستهدفة | الباحث عن أثر إنساني | المستخدم العملي | المشتري اللحظي |
اللغة | وجدانية، سياقية | مباشرة، مختصرة | استعراضية |
نقطة القوة | التعبير العاطفي | التنوّع والقيمة | التغليف المادي |
الدرس المستفاد: رسال لم تملأ فراغًا وظيفيًّا في السوق، بل فراغًا شعوريًّا، لم تدخل في سباق مع متاجر الهدايا، بل حددت ميدانًا مختلفًا بالكامل.
وهذا بالضبط ما يجعل جمهورها يراها كأداة للتعبير، لا كمنصة شراء – وهنا مكمن القوّة في التموضع: أن تكون ما يراه الناس فيك، لا ما تروّجه فقط.
المثال الرابع: نعناع: الانضباط الأسري قبل العرض التسويقي:
في سوق يعجّ بتطبيقات التوصيل اللحظي، كان من البديهي أن يحاول كل لاعب أن يُبرز عنصر “السرعة”، أو “التنوع”، أو “العروض”، لكن “نعناع” اختار طريقًا مختلفًا تمامًا – لم يُزايد على السرعة، ولم ينافس بالعروض، بل تموضع على شيء أهدأ وأعمق: “نحن خيارك الأسبوعي المنظّم لتوصيل البقالة، كما ينبغي أن يكون”.
التموضع الذي لا يُقال بل يُمارس:
تموضع نعناع لم يُعبّر عنه بشعار مباشر، بل انسحب على سلوك المنصة بالكامل:
- لا يروّج للحاجة الفجائية، بل للتخطيط المسبق.
- لا يُغريك بخصومات لحظية، بل يُكرّس تجربة أسبوعية متكررة.
- لا يُخاطبك كمستهلك لحظي، بل كربّ أسرة أو منظم ميزانية منزل.
وهذا قرار إستراتيجي شديد الذكاء؛ لأنّه:
- قلّل من تنافسه مع تطبيقات “اللحظة” مثل مرسول أو جاهز.
- أنشأ علاقة طويلة المدى مع المستخدم، لا علاقة عرض وانتهاء.
قد تقول: كيف انعكس التموضع على تجربة المستخدم؟
واجهة الاستخدام تحفظ سلوكك الشرائي، وتُعيد اقتراحه عليك أسبوعيًّا، التصنيفات واضحة بسيطة ومُهيّأة لتكرار الاستخدام لا الاستكشاف، نظام الشحن مبني على المواعيد الثابتة، لا على “وصل خلال 15 دقيقة”.
كل هذا يخدم تموضعًا يقول ضمنيًّا: “لسنا هنا لنحل أزمة، نحن هنا لننظّم حياتك”.
إليك مقارنة مع المنافسين لتفهم تموضع نعناع أكثر:
العنصر | نعناع | مرسول | هنقرستيشن |
منطق الاستخدام | أسبوعي، متكرر، عائلي | لحظي، فردي، مرن | لحظي، قائم على المطاعم |
الشخصية المستهدفة | رب أسرة، مشتري منزل | المستخدم الفرد، العابر | الباحث عن الأكل الجاهز |
التسعير | مستقر | متغيّر حسب السائق | عرضي |
نقطة القوة | الثقة والانضباط | المرونة | التنوّع |
الدرس المستفاد: نعناع لم يحاول أن يكون “الأسرع” أو “الأذكى”، بل كان الأوضح في مهمّته: خدمة شراء أسبوعية تُدار بأقل جهد ممكن.
وبهذا التموضع، لم ينافس فقط على التطبيق، بل على “مكان في العادة الأسبوعية للمستخدم” – وهي مرتبة لا يصلها إلا من فهم أن التموضع لا يُصاغ فقط، بل يُتّخَذ.
قد يهمك: إعلانات الحج: مَن يزرع المعنى في الطريق إلى مكة؟
5 خطوات عملية لبناء تموضع لا يُنسَى (بإطار عملي من نكتب لك):
قد تملك منتجًا رائعًا، وتصميمًا متقنًا، وفريقًا يعمل بإخلاص، لكن ما لم يعرف السوق ما الذي تمثّله فعلًا، فأنت مجرّد خيار آخر وسط فوضى الخيارات، التموضع ليس ورقة تُكتب مرة واحدة في ملف الهوية، بل هو قرار إستراتيجي يتسرب إلى كل شيء: رسائلك، تجربتك، أسلوب تواصلك، وحتى ما لا تقوله.
والمشكلة الكبرى أن أغلب ما يُكتب عن التموضع، يركّز على الشكل النهائي: “نحن نُقدّم كذا”، “نحن نُناسب كذا”، دون أن يشرح كيف نصل إلى هذه الصياغة، ومتى تكون قوية فعلًا.
لا يكفي أن تصنع تموضعًا جذابًا، بل يجب أن يظهر ويتكرر بذكاء؛ لأن دراسات السوق تؤكد أن العلامة تحتاج من 6 إلى 7 مرات ظهور لترسخ في الوعي.
في هذا القسم، لن نكتفي بالتنظير، بل سنفكك معك خطوات بناء التموضع كما نمارسها في “نكتب لك” خطوة بخطوة، من لحظة الشك الأولى، إلى نقطة الوضوح الكامل، وسنعرض في النهاية إطارًا عمليًّا اختبرناه مع عملائنا، واستخدمناه لتوجيه عشرات الحملات التسويقية من الجذر.
الخطوة الأولى: لماذا لا يمكنك استئجار تموضع جاهز؟
في سوق مزدحم بالنُسخ، تغري الكثير من الشركات فكرة “استعارة تموضع جاهز”: خذ ما يقوله منافسك، عدّله قليلًا، غيّر في الألوان والنبرة، ثم امضِ في طريقك.
لكن هذه المقاربة قد تمنحك شعارًا، لكنها لن تمنحك مكانًا في عقل السوق، التموضع ليس شيئًا يمكنك “استئجاره” من أحد؛ لأنه ببساطة: لا يتكوّن من الكلمات، بل من طريقة نظرك إلى السوق، وفهمك لموقعك فيه، الهدف من التموضع ليس فقط أن يُعجَب بك، بل أن تُصبح مألوفًا في ذهن جمهورك، لأن 50٪ من الناس يميلون للشراء من علامات يعرفونها حتى قبل المفاضلة.
لماذا لا يعمل التموضع المنسوخ؟
- لأنك لا تعرف سبب اختيار المنافس لتموضعه أصلًا، ربما اختاره لأنه يملك موارد لا تملكها، أو لأنه يخاطب فئة غير فئتك، أو لأنه يعالج نقطة ضعف لا تعاني أنت منها.
- لأن التموضع ليس “ما يُقال عنك”، بل “ما يُجسّده سلوكك وتجربتك”، فإذا قلت مثل ما يقول الآخر، وسلكت سلوكًا مختلفًا، فقدت مصداقيتك في أول تفاعل.
- لأن السوق لا يرحم المترددين، فتموضعك المنسوخ سيُقرأ دومًا كظل باهت لغيرك، لا كصوت أصيل.
التموضع لا يُبنى من الخارج للداخل، بل من الداخل للخارج ابدأ من: من أنت؟ وما الذي تراه ولا يراه غيرك؟ لا تبدأ من: “ما الذي يعمل مع الآخرين؟”.
من اختار تموضعه بناءً على قناعة، يملك قدرة أكبر على الدفاع عنه حين يتغير السوق، أما من اختار تموضعًا مستعارًا، فسيبدّله كما يُبدّل شعاره عند أول أزمة.
الخطوة الثانية: اكتشاف الفجوة الذهنية في السوق:
التموضع القوي لا يبدأ من الداخل فقط، بل من قراءة دقيقة لما ينقص الخارج، ليس المطلوب أن “تخترع” تموضعًا، بل أن تكتشف فجوة لم يملأها أحد بعد، أو وعدًا لم يُعبّر عنه كما ينبغي.
الفجوة الذهنية لا تعني غياب منتج، بل غياب معنى، قد يكون هناك عشرات التطبيقات أو الشركات في نفس القطاع، لكن لا أحد منهم يجيب عن سؤال لم يُطرح صراحة، بل يشعر به الجمهور كل يوم.
ما معنى “فجوة ذهنية” تحديدًا؟ هي تلك المسافة بين ما يعيشه الجمهور فعلًا (الإرباك، الحيرة، الملل، الجهد)، وما يتمنّى أن يجده (الراحة، البساطة، التخصيص، الحضور الإنساني).
العلامة الذكية لا تبني تموضعها على “ما يقدّمه السوق”، بل على ما لا يستطيع السوق التعبير عنه بوضوح.
كيف تكتشف هذه الفجوة؟
- استمع لما لا يُقال صراحة في تعليقات المستخدمين: “ليش لازم أعبي كل هالمعلومات؟”، “أبغى حل يشتغل على طول”، “ما في أحد فاهمني”، هذه ليست شكاوى عابرة، بل مفاتيح لرغبات عميقة لم تُشبَع بعد.
- انظر إلى لغة المنافسين: هل يتشابهون؟ هل يكرّرون الوعود ذاتها؟ إذا أجاب الجميع بـ “نحن الأسرع”، فربما الفجوة في “من يفهم احتياجي الشخصي فعلًا”.
- اسأل جمهورك أسئلة صغيرة بصياغة دقيقة: ما أكثر لحظة شعرت فيها بالإحباط أثناء استخدامك للخدمة؟ ما الذي تتمنّى لو توفر، حتى لو كان بسيطًا؟
لا أحد يمنحك فجوة ذهنية على طبق، لكن كل مستخدم يحمل في تجربته ما يكفي لكشفها، إن عرفت كيف تسأل ومتى تسكت.
حين تكتشف الفجوة الصحيحة، لن تحتاج إلى “إقناع السوق” بتموضعك، بل سيشعر الناس تلقائيًّا أنك ظهرت لتملأ مكانًا كان ينتظر من يملأه.
الخطوة الثالثة: تحديد من تخاطبه ومن لا تخاطبه:
أكثر ما يربك التموضع ويُضعف أثره، هو محاولة إرضاء الجميع، العلامة التي تسعى لأن تكون “حلًّا للجميع” لا تصبح شيئًا لأحد؛ لأنها لا تُخاطب أحدًا بلغة واضحة، ولا تُعبّر عن موقف يستدعي الانتباه أو التفضيل.
التموضع القوي يبدأ من لحظة تقول فيها: “نحن لا نخاطب هذه الفئة، ولا نَعِدُ بهذا النوع من القيمة”.
قد يبدو هذا تنازلًا في البداية، لكنه في الحقيقة أقوى قرار تسويقي يمكن أن تتخذه.
لماذا هذا الإقصاء ضروري؟
لأنه يخلق الحدة والوضوح، حين يعرف جمهورك أنك لست “لأي أحد”، تبدأ في التمايز، يصير من الواضح من تخدم ومن لا تخدم، العلامات التي تركّز على فئة محددة تنمو أبطأ أحيانًا، لكنها تبني ذاكرة أقوى، وقاعدة أعمق، وهوية لا تُشبه غيرها.
أمثلة من السوق:
- مرسول لا يناسب من يريد قوائم جاهزة أو تجربة منظمة مثل هنقرستيشن، لكنه يخدم من يريد “طلبًا حرًّا” بدون قيود.
- رسال لا تنافس على أفضل سعر للهدايا، بل تخدم من يرى في الهدية رسالة، لا غرضًا ماديًّا.
- سلة لا تستهدف المؤسسات الكبيرة، بل تُمكّن التاجر الفرد من الانطلاق بسرعة دون تعقيد.
كل واحدة من هذه العلامات اختارت أن لا تكون كل شيء لكل أحد، ولهذا أصبحت شيئًا محددًا لا يُنسَى.
الأسئلة الجوهرية التي تحتاج إلى حسم:
- من نرفض أن نُخاطبه؟
- ما نوع المشاريع التي لا تناسبنا؟
- ما القيمة التي لن نَعِدَ بها مهما كانت مغرية؟
الإجابات عن هذه الأسئلة لا تُكتَب في ملف داخلي فقط، بل تُطبّق في طريقة عرض الأسعار، في الحملات، وحتى في ردود فريق الدعم، التموضع الحقيقي لا يكون بالوعد فقط، بل بالالتزام بما لا تَعِدُ به.
الخطوة الرابعة: صياغة التموضع كموقف، لا كميزة:
أغلب العبارات التي تُستخدم في ملفات الهوية التسويقية تبدأ بمثل: “نحن نوفّر…”، “نتميز بـ…”، “نساعد عملاءنا على…”.
هذه العبارات، رغم صحتها الظاهرية، تظلّ مجرد سرد لمزايا، وليست تموضعًا حقيقيًّا؛ لأن الميزة يمكن تقليدها، السعر يمكن تجاوزه، السرعة يمكن التفوق عليها، لكن ما لا يمكن نسخه هو الموقف.
التموضع القوي لا يَعِد فقط، بل يَقف في وجه شيء، أقول: التموضع الحقيقي يتكوّن حين تقول ضمنيًّا:
- “نحن نرفض هذا المنطق”.
- “نحن لا نؤمن بهذه الطريقة في تقديم الخدمة”.
- “نحن نؤسس لبديل، لا لنسخة محسّنة”.
العلامة التي تصوغ تموضعها كموقف تُصبح مرتبطة بسلوك، وبمبدأ، وبانطباع نفسي طويل الأمد.
أمثلة من السوق:
- نعناع لا تقول “نحن نوفّر البقالة”، بل تقف ضد الفوضى، ضد العشوائية، ضد المفاجآت في تسوق البيت الأسبوعي.
- مرسول لا يقول “نوصّل أي شيء”، بل يرفض أن تُقيّد تجربة التوصيل بقائمة محددة أو بتجار معيّنين.
- نكتب لك لا تعد بكتابة مقالات سيو فقط، بل تقف ضد المحتوى المعلّب، وضد قياس النجاح بعدد الكلمات والزيارات فقط.
الصياغة تبدأ من الداخل، قبل أن تسأل: “ما الذي نقدّمه؟ اسأل:
- “ما الذي نرفضه؟”.
- “ما الذي نعتقد أنه لا يخدم السوق كما يجب؟”.
- “ما الموقف الذي يمكن أن نصبح صوتًا له؟”.
من يملك موقفًا، لا يحتاج أن يصيح في كل إعلان، يكفيه أن ينسجم سلوكه مع قناعته، لتُصبح رسالته مفهومة من دون شرح.
الخطوة الخامسة: أداة “نكتب لك”: مثلث التموضع النشط:
في معظم الورش الاستشارية التي نقودها مع العملاء، تكون المشكلة الجوهرية هي الغموض:
- الفريق لا يعرف ما الذي يميّزهم فعلًا.
- الرسائل التسويقية تتغير كل فترة.
- العملاء يتواصلون لتفاصيل لا علاقة لها بما يجب أن يُقدَّم لهم.
ولحل هذه الفوضى، طوّرنا إطارًا بسيطًا لكنه فعّال: مثلث التموضع النشط.
أداة مختصرة تساعدك على اتخاذ قرارات تموضع من ثلاث زوايا لا غنى عن واحدة منها.
مكونات المثلث:
- أنا مختلف عن…
– من هم أقرب منافسيك؟
– ما اللغة أو التجربة التي ترفضها وتراها مملة أو مستهلكة؟
– ما الوعد الذي يقدّمونه ولا تريد تقليده؟
- أنا مناسب لـ…
– من الفئة التي تفهمك فورًا دون شرح؟
– من الذي يشعر بأنك صُمِّمت خصيصًا له؟
– ما نوع العميل الذي تنجح معه أكثر من غيرك؟
- أنا لا أقبل بـ…
– ما هي أنواع الطلبات أو التوقعات التي ترفض تلبيتها؟
– ما الذي لن تَعِدُ به حتى لو دفعت السوق إلى غيرك؟
– ما النوع من العملاء أو السلوكيات التي تُربك مشروعك وتُشوّه هويّـتك؟
كيف نستخدم هذا المثلث في “نكتب لك”؟
قبل البدء في أي حملة محتوى، أو حتى قبل كتابة مقترح العميل، نطرح هذه الأسئلة معًا بصوت عالٍ، وحين تكتمل زوايا المثلث، تبدأ الرؤية في التشكّل:
- تتضح اللغة المناسبة.
- تُرسم حدود واضحة للهوية.
- وتُبنَى تجربة المستخدم على منطق لا يمكن تقليده بسهولة.
لماذا أسميناه “نشطًا”؟
لأن التموضع – كما نراه – ليس عبارة تُعلّق على الصفحة الرئيسية، بل قرار يُتخذ كل مرة تكتب فيها، أو تسعّر، أو ترد على عميل، المثلث لا يُستخدم مرة واحدة، بل يُراجع كلما تغيّر السوق أو توسّعت الخدمة.
اختبار التجربة: هل يلمس التموضع العميل أم يبقى على الورق؟
التموضع لا يُقاس بجمال الصياغة، ولا بعدد مرات تكراره في العروض التقديمية، التموضع الحقيقي يُقاس بشيء واحد فقط: هل يشعر به العميل أم لا؟
لا قيمة لأي عبارة تُكتب في ملف الهوية إن لم تتحول إلى تجربة، إلى إحساس، إلى قرار شراء واضح، أو موقف في ذهن المتلقي.
كيف تعرف أن تموضعك فعّال؟
- حين يكرّر العميل كلماتك دون أن تطلب.
- حين يُخبرك أنه شعر بأنك “تفهمه”.
- حين تصل الرسائل الصحيحة من العملاء الصحيحين.
- حين تُصبح مقارنات الجمهور لك مختلفة عن منافسيك.
- حين يتحدث فريقك بلغة واحدة دون حاجة لكتيّب تعليمات.
هذه العلامات لا تأتي من إعلان، بل من اتساق التموضع مع كل تفصيلة في التجربة.
علامات فشل التموضع (حتى لو بدا جميلًا):
- جمهورك الأساسي لا يتفاعل، في حين أنه تأتي استفسارات من فئات لا تناسبك.
- فريق المبيعات يستخدم لغة تختلف تمامًا عن لغة الموقع.
- العملاء الجدد يطلبون أشياء لا تقدمها، لأن رسالتك لم تكن واضحة.
- تُغيّر رسائلك التسويقية باستمرار، لأن لا شيء “يثبت” في ذهن السوق.
- المحتوى لا يحصد أثرًا، رغم الاستثمار فيه، لأنه لا يبني صورة ذهنية مستقرة.
التموضع ليس جملة، التموضع هو أثر متكرر:
إن لم يتكرّر الأثر، فكل ما فعلته هو كتابة شعار جذّاب، وإن لم يشعر به جمهورك من دون أن تشرح، فأنت لم تبنِ تموضعًا، بل كتبته فقط، التموضع الناجح لا يبالغ، لا يتجمّل، بل يُفصح عن جوهر حقيقي، وهذا ما يُفسِّر لماذا 88٪ من العملاء يربطون ولاءهم بالأصالة في تموضع العلامة.
الآن وقد اكتملت بين يديك أدوات بناء التموضع – من الفهم، إلى الصياغة، إلى التجربة – قد تظن أن ما بقي هو التنفيذ فقط.
لكن الحقيقة الأصعب ليست في بناء التموضع، بل في معرفة متى لم يَعُد يصلح، الكثير من العلامات تستمر في تموضعها القديم فقط لأنهم اعتادوه، لكن السوق لا يعترف بالاعتياد، وحين تتغير المعطيات من حولك – جمهورك، منافسوك، حتى سلوك المستهلك – يصبح التمسك بتموضع قديم أخطر من عدم وجود تموضع أصلًا.
قد يهمك: ما هي معايير الثقة في اختيار وكالة تسويق إلكتروني نزيهة للعمل معها؟
لهذا، ننتقل في القسم التالي إلى السؤال الحاسم:
متى يجب أن تُعيد تموضع علامتك؟ إشارات تحذيرية لا تتجاهلها:
التموضع ليس قرارًا يُتخذ مرة واحدة ثم يُترك ليستقر كما هو، بل هو نظام حيّ يتأثر بتغير السوق، وتحولات الجمهور، ونضج المشروع نفسه.
لكن التحدي الحقيقي ليس في تعديل التموضع، بل في معرفة متى يبدأ في التآكل دون أن نشعر.
الكثير من العلامات تتشبث بتموضعها الأصلي حتى بعد أن يفقد معناه، أو يُصبح عبئًا على النمو، فكانت النتيجة: رسائل لم تعد تُقنع، محتوى لا يجد من يتفاعل معه، وقرارات تسويقية تُبنى على صورة لم تعد حقيقية.
في هذا القسم، سنعرض الإشارات التي تنذر بأن تموضعك الحالي قد فقد صلاحيته – حتى لو بدا ناجحًا على الورق.
تغير جمهورك الأساسي دون أن يتغير خطابك:
أخطر ما يمكن أن يحدث لعلامتك هو أن يبتعد جمهورك الحقيقي، في حين أنك تستمر في مخاطبته كما لو كان لا يزال في مكانه، في بداية أي مشروع، يكون الجمهور محدودًا، معروفًا، سهل الوصول، لكنك مع الوقت تتوسع:
- تنتقل من الأفراد إلى الشركات.
- من المهتمين إلى المتخصصين.
- من شريحة عمرية إلى أخرى.
- من سوق محلي إلى جمهور مختلف تمامًا.
لكن هل تموضعك يواكب هذا التغير؟ هل ما زلت تتحدث بنفس المفردات؟ بنفس الوعود؟ بنفس الصورة التي كانت تصلح قبل سنتين؟
إذا كانت الإجابة نعم، فأنت تخاطب جمهورًا لم يعُد هنا.
كيف تعرف أن جمهورك تغيّر وأنت لا تزال على خطابك القديم؟
تبدأ بالتفاعل من فئة جديدة، لكن لا تعرف كيف تُعيد صياغة الرسائل لهم، تجد أن الرسائل التي كانت تُقنع، صارت تُقابل بالفتور، فريق المبيعات يجد نفسه يعيد شرح “من نحن” بطريقة تختلف عما هو مكتوب في الموقع.
هذه ليست مشكلات تسويقية فقط، بل علامات على أن تموضعك الحالي ينتمي إلى جمهور رحل، لا جمهورك الحالي.
رسائلك التسويقية لم تعد تُقنع، وتحتاج إلى شرح مفرط:
من علامات التموضع الصحي أنه يختصر، لا يُفسّر: عبارة واحدة، أو سطر واحد، يُفترض أن يرسِّخ في ذهن العميل إحساسًا بالوضوح: “أعرف من أنتم، وأعرف إن كنتم تناسبونني أم لا”.
لكن حين يبدأ فريقك في شرح التموضع باستفاضة، وتضطر إلى كتابة فقرات كاملة لشرح ما يجب أن يُفهم في سطر، فهذه إشارة خلل لا يجوز تجاهلها.
ما مظاهر هذا الخلل؟
- عناوين الصفحة الرئيسية تصبح أكثر طولًا وأقل وضوحًا.
- الجمل التعريفية تبدأ بإرضاء الجميع بدل التركيز على فئة معينة.
- فريق المبيعات يشعر بأنه يحتاج إلى “تعديل” ما يُكتب في الموقع ليكون أكثر إقناعًا.
كل هذا يدل على أن التموضع لم يعُد واضحًا بما يكفي ليقف وحده، التموضع الجيد لا يُشرح، التموضع الجيد يُشعر به إن احتجت إلى مقالة كاملة لتشرح من أنتم، فأنتم لم تحددوا بعد من أنتم فعلًا.
المنافسون بدؤوا يتشابهون معك وتُشبههم:
حين تفقد علامتك صوتها الخاص، تبدأ في الذوبان داخل السوق بدلًا من أن تبرز فيه، لكن الأسوأ من ذلك: أن تبدأ تشبه منافسيك، ويبدؤوا يشبهونك – دون أن يكون هناك سبب واضح للتمييز.
التموضع لا يُقاس فقط بما تقوله عن نفسك، بل بالمسافة الذهنية بينك وبين من ينافسك، فإذا بدأت هذه المسافة في التقلّص، فاعلم أن تموضعك لم يعُد فريدًا ولا مستقرًّا.
كيف يظهر هذا التشابه في الواقع؟
- يبدأ عملاؤك بمقارنة عروضك بنفس معايير السوق، وكأنك لا تختلف.
- الكلمات التي تستخدمها في تسويقك تظهر في إعلانات غيرك.
- تبدأ الحملات الإعلانية تتحدث عن “العروض” و”الأسعار” بدل القيمة الجوهرية.
- تجد نفسك ترد على سؤال: “ما الفرق بينكم وبينهم؟” بتبرير تقني أو وظيفي، لا بإجابة مبدئية.
التموضع ليس تمايزًا في التفاصيل، بل اختلاف في المنطق، حين تصبح مجرد “نسخة محسّنة” مما هو موجود، فأنت تضع نفسك في موقع دفاع، أما التموضع السليم فهو أن تقول: “نحن لا نلعب نفس اللعبة أصلًا”.
جمهورك يستخدم عبارات لا تمثّلك لتوصيفك:
واحدة من أكثر الإشارات دقّةً وخطورةً أن يراك جمهورك بطريقة لم تكن تقصدها، ويُعرّفك بكلمات لم تختَرها، ويضعك في خانة لم تدخلها طوعًا، قد لا تكون هذه الكلمات سلبية، لكنها ببساطة لا تعبّر عنك، ولا تنتمي إلى هويتك.
أمثلة واقعية: تقدم نفسك كمنصة للإهداء، فيقول المستخدمون: “أوه، متجر إلكتروني للهدايا؟”، تُموضع خدمتك على أنها “حل بسيط للمحاسبة”، فيراك الناس “أداة فواتير مجانية”، تُعرّف علامتك على أنها “وكالة إستراتيجية”، فيراك العملاء “شركة كتابة محتوى”.
هذه ليست سوء فهم من السوق، بل انعكاس لأن رسائلك وقراراتك لا تعكس تموضعًا واضحًا ومستقرًّا.
لماذا يُعَدُّ هذا خطيرًا؟
لأن الجمهور حين يضعك في خانة لا تخصك، سيقارنك بمن لا يُشبهك، ويتوقع منك ما لا تستطيع تقديمه، ويُقيّمك بمعايير لا تخصك أصلًا، ومع الوقت يصبح إصلاح الصورة أصعب من بنائها من جديد.
التموضع الناجح يُلهم اللغة:
حين يكون تموضعك دقيقًا، تجد الناس يستخدمون كلماتك دون أن تطلب، يرددون تعبيراتك في تقييمات المنتج، يتحدثون عنك كما أردت تمامًا، وربما بأفضل مما صغت.
يمكنك أن تكتب أجمل العبارات في صفحة “من نحن”، وتصوغ أكثر الجمل إقناعًا في صفحتك الرئيسية، وتستثمر آلاف الريالات في الإعلانات.
لكن كل ذلك ينهار في لحظة واحدة، إذا كانت تجربة المستخدم لا تُثبت ما تعد به.
التموضع ليس وعدًا يُقال، بل تجربة تُلمَس، وإذا خالفت التجربة الرسالة، فإن الجمهور لن يُناقشك، بل سيتجاهلك.
كيف تظهر هذه الفجوة؟
- تَعِدُ بالبساطة، لكن التسجيل مليء بخطوات لا معنى لها.
- تَعِدُ بأنك “الأقرب”، لكن لا أحد يرد على الاستفسارات في الوقت المناسب.
- تقول إنك تفهم العميل، ثم تُلزمه بخيارات لا تناسب واقعه.
في كل حالة من هذه الحالات، لا يشعر المستخدم بأن ما وُعِد به قد تحقق، بل يشعر أن هناك فجوة بين الكلام والفعل.
التموضع ليس ظاهر الموقع، بل باطن المنتج:
إذا أردت أن تعرف إن كان تموضعك صادقًا، فلا تنظر إلى النصوص، بل إلى:
- أول ٣ دقائق يقضيها المستخدم في موقعك.
- الرد الأول من فريق الدعم.
- شكل النموذج الذي يملؤه العميل.
- طريقة تقديم عرض السعر.
- سير الرحلة من النقطة الأولى إلى الشراء.
هذه التفاصيل إما تؤكد تموضعك وإما تنسفه من الجذر.
تذكر دائمًا: إذا رأيت واحدة فقط من هذه الإشارات، فراجع نفسك، وإذا رأيت ثلاثًا منها أو أكثر، فأنت لا تحتاج تحسينات، بل إعادة تموضع شاملة.
قد يهمك: أفضل شركات التسويق في السعودية .. الدليل المختصر.
خلاصة القول: التموضع ليس البداية فقط، بل البوصلة والخلاص.
ربما قرأت هذا الدليل بحثًا عن طريقة للتميّز، أو لأنك شعرت أن هناك شيئًا في علامتك لا يستقر، وربما وصلت إلى هنا لتكتشف أن المشكلة ليست في الحملات، ولا في التصميم، ولا في أداء فريق التسويق.
بل في السؤال الذي لم يُطرح من البداية كما يجب: “من نحن؟ لماذا نحن؟ ولمَن نحن؟”.
التموضع لا يسبق التسويق فقط، بل يتجاوزه، فهو ما يجعل عميلك يراك قبل أن يبحث، ويفهمك من دون أن تشرح، ويثق بك حتى حين لا تكون الأرخص، ولا الأسرع، ولا الأحدث.
إذا شعرت وأنت تقرأ أن التموضع في مشروعك لا يخدمك، أو أنه يُربك رسائلك بدلًا من أن يبنيها، فربما ما تحتاجه ليس حملة جديدة، بل بوصلة جديدة، ونحن – في “نكتب لك” نبدأ دائمًا من السؤال، لا من الإجابة، لا نكتب لك ما يبدو جميلًا فقط، بل ما يستند إلى منطق، ويُجسّد في كل نقطة تفاعل.
إذا أردت أن تعيد بناء تموضعك بهدوء، وعمق، وإستراتيجية تدوم، فتواصل معنا.
دعنا نبدأ المحادثة من حيث يجب أن تبدأ: من الداخل.